أحمد الصافي النجفي :شاعراً ومجاهداً
بقلم: محمد عبد الرضا شياع
صحيفة الراية القطرية
يُعَدّ الشاعر أحمد الصافي النجفي (1895 _ 1977) بسيرته الشعرية والنضالية قيمة تراثية تستحق التأمل والانبهار في كل حين. ولا أدّعي أنني سأقوم في هذه السطور باستعادة هذه القيمة, بقدر ما أنوي معانقتها عبر إشارات وامضة، تعبّر عن تقديري وابتهاجي بإيقاع حياته المتفردة بنضالها وغربتها وسقمها وعذابها وتشردها، وبسحر كلماته المنطوية على باطن عميق قد يخالف ويتجاوز، في الآن ذاته,الكثير من الشعراء الفحول, قديماً وحديثاً, ولا أظنني مغالياً في هذا الوصف، وإنّما أجدني فيه أقرب إلى المنطق الذي يسعفني فيه شعر الصافي نفسه من ناحية، ومن ناحية أخرى شهادة كبير النقاد وعلم المبدعين شيخنا عباس محمود العقاد _ رحمه الله _ والذي يقول: "الصافي أكبر شعراء العربية".
يتطلب الوقوف في حضرة الصافي عشقاً للمتاه، ومراوغة للإمساك بسبل مجاهيل عالمه الواضح والمخاتل, المغاير والمؤتلف, القاصي والداني. عالم ظاهره غريب وباطنه أغرب. نعم إنّه عالم الصافي الحافل بالضدية العميقة المنطوية على جوانيه قد لا ندرك كنه فلسفتها وفكرها. إنّها جوانية تتغزل بدهشتها الأبدية المجافية للمألوف، والعاشقة لغربتها السعيدة.
للصافي مظهر ينفّر وجوهر يحيّر
( كان دائماَ يظهر بمظهر واحد لا يتغير في أيامه ولياليه: كوفية عراقية بالية, وجلباب مهترئ رديم, ونعل بال قديم)) (1). هذا ما يخبرنا عنه مجالسوه، بل مريدوه ومن هو أقرب إليه ذلك الدكتور خليل برهومي الذي حينما قرأت كتابه(2) عن الصافي وجدت علاقتهما تضاهي علاقة جلال الدين الرومي بشمس الدين التبريزي. إنّها علاقة "ذات أسرار وجاذبية" يغلّفها العشق الأكبر، ويبطّنها ابتهاج الرّوح العظيم. فكان الصافي معلّماً حانياً وصار برهومي تلميذاً وفيّاً.
لقد كفر الصافي بالمظاهر وعشق الجواهر. من هنا قلنا: للصافي مظهر ينفّر وجوهر يحيّر، إذ يقول:
أنتم نظرتم ظاهري فضـحكتم
ونظرت باطنكم فعدت ضحوكا
فلنبق نضحك لست قط بظاهري
أهتـم إن يك بالـيـاً منـهوكا
كلا ولستم تحفلون بــباطن
إن كان باطـنكم غداً مهتوكا(3)
لم يكن الصافي بوهيمياً كما يزعم بعض الباحثين، ولم يكن ملتذّاً بشضف العيش، وإنّما كان ينحى منحى فلسفياً به يحمل الناس على تحمّل وعثاء السفر لاجتياز المسافة وبلوغ الأعماق حيث اللآلئ تسكن بسلام. لأنّه لم ينبهر بلمعان الأصداف الثاوية على رمال الشواطئ الذهبية, فهي نقوش بالية تدوسها الأقدام. وشتان ما بين اللآلئ والأصداف، وشتان ما بين المظاهر والأعماق:
عيون الناس ناظــرة لثوبي
وقد عميت فلــم تبصر فـنوني
سأصنع من غباوتــهم ثياباً
وألبس, إن عريت, عمى العيون(4)
لعل ثقة الصافي بنفسه متأتية من أصالة معدنه ونقاء نسبه، فهو سليل أسرة علوية ذات حسب ونسب كريمين وعِلْمٍ ودين لها من الخصال ما حمد ومن المزايا ما طاب. فكانت هذه الأسرة محط تقدير الجميع وتبجيلهم. وفيها قال الشيخ كاظم السماوي:
إن عيشي غض ووردي صافي.. بجوار والقرب من آل صافي.(5)
إنّ شخصية الصافي، حقاً، شخصية لافتة سيرة وإبداعاً. لم يسع يوماً لمجد شخصي كما فعل المتنبي، ولم يجالس أصحاب الأدب إلا لماما، لأنّه ذو سجية خاصّة وسلوك لا يمكن إلا أن يوصف بسلوك شاعر متمرد. ويقرّ الصافي نفسه بذلك:
ويك يا طالب التـقرب مـني
في اقترابي مشاكل لا تطاق
أنا كالشمس حسبك النور منها
من بعيد ففي الدنو احتراق(6)
يبدو أنّ الشاعر رغم نأيه عن مجالسة أصحاب الأدب وصخبهم كان مترعاً بالنضال. لقد نذر نفسه لمقارعة المستعمرين منذ سنواته البكر. فهو من الممهدين لثورة العشرين في العراق بحيث كان بيته، في مدينة النجف الأشرف مسقط رأسه، مقراً للنضال ومأوى للمناضلين يلهب فيهم ويؤجج سنا الثورة شعراً وفعلاً. وبعد أفول الثورة نصبت له الأعواد لشنقه، فأدركه الخبر، فعاش حياة التجوال والاغتراب؛ يفر من مدينة لأخرى، ومن بلد لآخر. فصارت حياته سفراً في سفر، يعاقر المرض والفقر ويمجهما شعراً انطوى على كلّ تيمات الشعر وموتيفات الأدب والفن عبر أسلوب تجلى به الشكل وعانق من خلاله المضمون الذي يعدّه بعضهم سُبّةً وما هو بذلك. إنّها الحداثة المسافرة بلا انقطاع في الزمان والمكان العربيين.
لقد كان الصافي مطارداً من الإنجليز، فحط الرحال، بعد طول غياب، في أرض لبنان، ليناصب الفرنسيين العداء الذين قرروا إبعاد صوته الذي كان يتسلل إليهم من بين الأصوات كفورة دم ولمعة نجم في سماء لا تكدرها الغيوم. فكان لهم ما أرادوا وله ما أراد:
سجنت وقد مرت ثلاثون حجة
من العمر فيها للـسجون تشـوقت
سعى دعبل للسجن طول حياته
فخاب، وفي المسعى لسجني توفقت(7)
مرّت بالصافي السنون، وحياته سجال بين المرض والمنون. بيد أنّ النضال كان يهبه أسباب الحياة، ويُلبس خصومه عوامل الخواء:
خسئت إنكـلترا والله
أعـمى مـقلتــيها
قبرها في كـلّ أرض
حفـرته بــيديـها
سجنتني دون ذنــب
غير لعني أبــويها
أمّنت حربي، وسجني
يعلن الحرب عليها!(
عاش الصافي النجفي حياة عجاف. حياة ممزقة بين السقم واليتم والألم والحرمان. مات أبوه ولم يبلغ الثانية عشرة، وتوفيت أمّه ولم يكمل السابعة عشرة من عمره، فداهمته الأحزان والعلل. عاش غريباً داخل نفسه وغريباً بين أهله وعشيرته "بل الغريب من هو في غربته غريب "كما يقول أبو حيان التوحيدي. فكتب الصافي، بحسّ مرهف وبدمع مذرف، أجمل قصائد الغربة، ونجتزئ شيئاً من قصيدة "شاعر وأزهار" لنلمس عذوبة هذا الشاعر وفرط حساسيته الراجفة بالألم والمعاناة:
أقبّل الزهر في الأغصان مـزدهياً
وما تسوغ كفي قـطف أزهار
جرّبت من غربتي ما لست أحـمله
فما أكلف غيري غربة الـدار
تموت للـغربة الأزهار إن قطفـت
فكيف يحيا غريب رهن أسفار
لو كان يحمل حس الزّهر مغـترب
لمات كالزهر من هم وأكـدار
يبدو لي الزهر تزدان الصدور به
مثل الشهيد بلا جرم وأوزار(9)
استمر الصافي النجفي يرفل في غربته التي صارت ديدن حياته. إلى أن توعده القدر برصاصات طائشة في أحداث لبنان الدامية نقل على أثرها إلى بغداد التي غادرها منذ زمن ليس بالقريب. وأحسّ الصافي بدم الحياة يجري في عروقه، وهو يسمع صخب بغداد، فحاول فتح عينيه المغمضتين ليرى ما يحس ويبصر ما يدرك، لكنّ عينيه المتعبتين لم تسعفاه. فقال متحسّراً:
يا عودة للدار ما أقساها
أسمع بغداد ولا أراها.(10)
وأبى الصافي النجفي إلا أن يعيش مناضلاً ويموت مناضلاً ليغادرنا في 27/6/1977 في رحلة تتجدد فيها الغربة كلّ يوم، مثلما يتجدد الشغف لقصائده كلّ حين.
هوامش:
1_و2 _خليل برهومي _ أحمد الصافي النجفي شاعر الغربة والألم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993.
3_ ديوان : أشعة ملونة.
4_ و6 _ ديوان : هواجس.
5_ انظر خليل برهومي. م.س، ص: 14.
7_ و8 _ ديوان : حصاد السجن.
9_الأعمال الكاملة، قصيدة: شاعر وأزهار.
10_ الأعمال الكاملة _ المقدمة.
:afro: